فصل: مطلب تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكمة فيها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذه آيتان محسوستان لكم بدلا من الواحدة إن كنتم تؤمنون.
قالوا له ننظر، فذهبوا حتى إذا أدبر الليل ابتدروا وتسابقوا إلى الثنية يتراءون العير فلما قرب طلوع الشمس قال قائلهم هذه واللّه الشمس قد طلعت ولم تر العير فأين قول محمد صلّى اللّه عليه وسلم، فلم يقض قوله إلا وقد قال الآخر هذه واللّه العير قد أقبلت وقد صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلم وها هي يتقدمها جمل أورق وعليه الغرارتان كما ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
قيل في هذه الحادثة إن الشمس تأخرت عن زمن طلوعها مدة حتى أقبلت العير ورأوها ثم طلعت وهذه تمام السبعين معجزة في هذه المرحلة المباركة وهذا آخر ما اطلعنا عليه في هذه الحادثة الجليلة من المعجزات وقد تبلغ إلى التسعين إذا عدت منفردة لأنا جمعنا ما رأى في الجنة وما رأى في النار باعتبار كل منها معجزة وهي معجزات كثيرة ومعجزاته صلّى اللّه عليه وسلم لا تعد ولا تحصى ولا يستبعدها إلا الأحمق الجاهل يقدر حضرة الرسول ومكانته صلّى اللّه عليه وسلم عند اللّه.
واعلم أن الشمس حبست لسيدنا داود ولسليمان ويوشع وموسى ولا يقال إن حبسها مشكل لأنه يختلف فيه سير الأفلاك ويفسد فيه نظام جريانها لأن هذا من المعجزات وهي من الأمور الخارقة للعادة ولا مجال للقياس في خرق العادة وقد وقع له صلّى اللّه عليه وسلم رجوع الشمس بعد غروبها في خيبر فقد جاء عن اسماء بنت عميس قالت كان عليه الصلاة والسلام يوحى إليه ورأسه الشريف في حجر علي كرم اللّه وجهه ولم يسر عنه حتى غربت الشمس ولم يصل العصر علي فقال صلّى اللّه عليه وسلم: «أصليت العصر يا علي قال لا فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت حتى صلّى علي كرم اللّه وجهه العصر ثم غربت ثانيا» ووقع له هذا أيضا أيام حفر الخندق وهذا من أعلام النبوة فاعتقد أيها القارئ وافهم لك حكمة الباري واحفظ ما لنبيّه عنده من الكرامة وتيقن قبل أن تحيق الندامة راجع الآية 33 من سورة ص وأول سورة القمر ففيها ما يشفي الغليل ويثلج الصدر هذا ولما تجلى لقريش ذلك كله تاب المرتدون ورجعوا إلى الإيمان وأصر المشركون على إنكارهم.
وقالوا سحرنا محمد وتواطئوا على هذه الكلمة قاتلهم اللّه وأخزاهم وقد استغرقت رحلته عليه السلام أربع ساعات زمانية وهي وما رآه في رحلته هذه من المعجزات المارة الذكر قد خصّه اللّه بها إذ ليس بطوق البشر الحصول على جزء منها واعلم أرشدك اللّه ومكّن إيمانك ان اللّه تعالى جلت قدرته قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الزمن الطويل والمسافة البعيدة لمن يشاء وهو أهون عليه وله المثل الأعلى.
وبهذه المناسبة نذكر ما وقع لبعض الأفاضل في بغداد وكان يعظ الناس بعد العصر فجاءت سحابة فغطت الشمس فظنوا أنها غابت وأرادوا الانصراف فأشار إليهم ان لا ينصرفوا ثم انحرف لجهة الغرب وقال:
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ** مدحي لآل المصطفى ولنجله

إن كان له ولى وقوفك فليكن ** هذا الوقوف لولده ولنسله

فلم ينته إلا والشمس قد طلعت، فرمى عليه من الذهب ما أثقله حمله، وهي اتفاقية لا معجزة ولا كرامة.

.مطلب في دوران الشمس والأرض والدّم وحكاية اتفاقية وان الاسراء اسراءان وغيره:

واعلم أن الفلكيين قالوا إن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى بتحوير الأرض عنه في أقل من ثانية، والثانية جزء من ستين جزءا من الدقيقة، والدقيقة جزء من ستين جزءا من الساعة والساعة خمس عشرة درجة فلكية، لأن كل درجة أربع دقائق، فإذا كانت هذه السرعة ممكنة في الجمادات فكيف لا تكون ممكنة في أشرف المخلوقات؟ على أن القلب يسير بصاحبه من الشرق إلى الغرب بل في جميع أنحاء العالم بلحظة واحدة بسبب لطافته ويدور الدم في الوجود كله ويرجع لمركزه بالدقيقة الواحدة ما يزيد على سبعين مرة والقوة الكهربائية تصل من الشرق إلى المغرب بلحظة، وإذا كان كذلك وهو كذلك أفلا يجوز أن يوجد اللّه تعالى تلك اللطافة والقوة بوجود المصطفى بقدرته البالغة؟ بلى، وهو على كل شيء قدير، وقدمنا آنفا في مبادئ هذه السورة ما يتعلق بهذا الإسراء وكونه يقظة، وفنّدنا ما يضاد هذه الأقوال بعد بيان المعجزة الخامسة أما ما جاء في حديث شريك من أن الاسراء وقع قبل الوحي رؤية فهو خطأ، وقد انتقد هذا الحديث الذي أخرجه البخاري جماعة من أهل العلم، وعلى فرض صحته يكون إسراءان واحد في المنام وقع له صلّى اللّه عليه وسلم توطئة وتيسرا لما تضعف عنه القوى البشرية من الأمور التي وقعت في الثاني، وإليه الاشارة بقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} إلخ الآية 6 الآتية من هذه السورة، وواحد في اليقظة بروحه وجسده وهو ما عليه الجمهور، قال في الكشف هذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأحاديث والأخبار، وقدمنا في الآية 18 من سورة الجنّ ما له علاقة في هذا البحث فراجعه، وقدمنا في الآية (9) فما بعدها من سورة والنجم قول الزهري بأنه سنة خمس أي سنة نزولها وبينا أن هناك أقوالا بأكثر وأقل أعرضنا عنها لعدم التثبت من صحتها، وقد ذكرنا أيضا هناك الاشكال الذي حصل لنا بفرضية الصلاة، لأن الفقهاء أجمعوا على أنها فرضت سنة عشر ليلة الإسراء، وسورة النجم نزلت سنة خمس.
واعلم أن ما ذكره النووي في الروضة من أنه وقع في السنة الحادية عشرة أي بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر فيه تسامح، لأنه اعتبر مبدأ التاريخ من شهر الولادة في 12 ربيع الأول سنة 1 منها والبعثة وقعت سنة 41 من ولادته في 27 رمضان والاسراء وقع في رجب سنة 51 قولا واحدا، فيكون على قول النووي عشر سنين وعشرة أشهر بتداخل السنتين المذكورتين وحساب طرفيهما، والحق أنه بعد البعثة بتسع سنين وعشرة أشهر لا عشرة أيام، لأن الكلمة مجمعة على أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة كما أن الكلمة مجمعة على أنها فرضت ليلة الإسراء، فيكون إذا صح ما قاله الزهري ان اللّه تعالى أخبر عن الإسراء الأول الذي وقع عند نزول سورة النجم.
بنزول سورة الاسراء هذه، كما أن الهجرة الشريفة وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة عند نزول سورة العنكبوت، وقد أخبر اللّه عنها في سورة التوبة التي هي آخر ما نزل في المدينة، وكما أن فتح مكة رآه حضرة الرسول عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وحققه اللّه فعلا سنة ثمان منها، وقضايا أخرى كثيرة كحادثة الندوة وغيرها، فعلى هذا يكون سبب عدم التحدث بها كون عبادته إذ ذاك كانت خفية لقلة المسلمين وضعفهم، أو من قبيل ما تأخر حكمه عن نزوله، راجع تفسير سورة الكوثر المارة وما ترشدك اليه فيما تأخر حكمه عن نزوله وبالعكس، هذا واللّه أعلم وقد ذكرت غير مرة أنه لم يحصل لي إشكال وللّه الحمد حتى الآن إلا في قضية فرضية الصلاة هل هي عند نزول سورة والنجم أو هذه السورة، وهل الإسراء وقع هناك أو هنا، ولهذا لم آل جهدا يتقبّل أقوال العلماء فيها، والسؤال أيضا من العلماء الموجودين واللّه ولي التوفيق.
أما الأقوال الواقعة في يوم الإسراء فهي كثيرة أيضا ولا طائل تحتها لذلك قد صرفت النظر عن سردها اكتفاء بالأقوال المجمعة على أنه يوم السابع والعشرين من شهر رجب سنة 51 لبلوغها حد التواتر ثم نزل جبريل عليه السلام على حضرة الرسول ليعلمه أوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها وأول صلاة صلاها بحضرة الرسول صلاة الظهر وأمه جبريل بها كلها يومين يوم بأول أوقات الصلاة ويوم بآخرها مستقبلا صخرة بيت المقدس وقال له الوقت ما بين هذين الوقتين والصلاة في هذه الأوقات وعلى هذه الصيغة والصفة كما هي عليه الآن إلا أنها كانت ركعتين ركعتين فاقرت في السفر وزيدت الرباعيات في الحضر.
ثم اعلم أن الصلاة على هذه الصفة من خصائص هذه الأمة ونبيّها، وكانت مفروضة على الأنبياء وأممهم متفرقة، وأول من صلّى الصبح آدم عليه السلام حين أهبط إلى الأرض، ورأى ظلمة الليل وابتلاج الفجر بعده، وأول من صلّى الظهر ابراهيم عليه السلام حين فدى اللّه له ابنه إسماعيل، وأول من صلّى العصر يونس عليه السلام حينما نجاه اللّه من ظلمات البحر، وأول من صلّى المغرب عيسى عليه السلام حين شرفه اللّه بالإنجيل وأعطاه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وأول من صلّى العشاء موسى عليه السلام حين خرج من مدين وضل الطريق فكان هداه فيه، راجع الآية 30 من سورة القصص المارة.

.مطلب تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكمة فيها:

لكن صلاتهم ليست على هيئة صلاتنا هذه وعدد ركعاتها، إذ كل منهم أداها على النحو الذي ألهمه اللّه إياه، والحكمة في كونها خمسا لا يعلمها على الحقيقة إلا اللّه، وقيل لأن الحواس خمس وتقع المعاصي فيما بينها ليلا ونهارا، وقد أشار صلّى اللّه عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله أرأيتم لو كان على باب أحدكم نهر جار ليغتسل منه منه في اليوم والليلة خمس مرات، أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا يا رسول اللّه، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهن الخطايا.
وقد سئل ابن عباس هل تجد الصلوات الخمس بالقرآن، قال نعم إن أوقاتها مبينة في قوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الآية 18 من سورة الروم من ج 2، وكذلك من الآية 130 من سورة طه المارة، وكذلك في الآيتين 77 و78 الآتيتين من هذه السورة، أما عدد ركعاتها فلم بشر إليه القرآن، وإنما ثبتت بفعل الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وتعليمه وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل من نفسه بل بوحي من ربه القائل: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية 7 من سورة الحشر في ج 3 وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} الآية 79 من سورة النساء من ج 3 أيضا قال تعالى: {وآتينا موسى الكتاب} جملة واحدة منسوخا على الواح بخلاف القرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فإنه أنزل بحوتا على قلبك بواسطة الملك وأوعينا كه بلغتك ووقّرناه في صدرك غير منسوخ على شىء لأنك أمي راجع بحث نزول القرآن في المقدمة {وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إسرائيل} آل يعقوب الملقب بإسرائيل أي صفوة اللّه من خلقه ليهتدوا بهديه وقلنا لهم فيه {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} تتكلون عليه في أموركم يا {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ} في السفينة وانجيناه من الغرق حين لم يكن له من يتوكل عليه غيرنا {إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا} 3 لي يحمدني على طعامه وشرابه ولبسه واظلاله كثيرا ولهذا وصفه بالشكر {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتابِ} أعلمناهم في التوراة وقلنا لهم على لسان رسولهم وحيا {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ} التي بوأناكم إياها من الشام وبيت المقدس وأطرافهما بأنكم ستعملون فيها الشرور والمعاصي والعبث بالناس {مَرَّتَيْنِ} الأولى قتل شعيا وحبس أرميا عليهما السلام حين إنذراهم سخط اللّه تعالى إن لم يقلعوا ممّا هم عليه، والثانية قتل يحيى والتصدي لقتل عيسى عليهما السلام لما دعواهما إلى اللّه والدين الحق الذي عبثوا به وغيروا أحكامه، يقول اللّه تعالى وعزتي وجلالي لتفعلنّ ذلك {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} 4 فتتكبرون على الناس وتظلمونهم وسنسلط عليكم من لا يرحمكم انتقاما لهم {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما} أي العذاب الموقت المقدر لعقاب المرة الأولى لعدم ارتداعكم عن الإفساد واغتراركم بإمهال اللّه {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا} مسخرين فيما نقضيه فيكم على أيديهم قالوا هو بختنصر الذي لم يعرف اسم أبيه، وكان عاملا على العراق لملك الأقاليم لهراست ابن كى اجنود وكان ذلك مشتغلا بقتال الترك فوجه بختنصر إلى بني إسرائيل وهذه الإضافة ليست للتشريف لأن الكافر ليس بأهل له ولكن من قبيل قوله تعالى: {كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} الآية 129 من الأنعام في ج 2، ولأنها جاءت باللام المفيدة للملك والكل مملوكون فلا محل للقول بأنها أي جملة {عبادا لنا} اضافة تشريفية البتة وعلى هذا ما ورد في الحديث القدسي: «الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه» أي أنه آلة للانتقام فيكون المراد من الآية والحديث بيان كون هؤلاء المسلطين مظاهر لأسمائه تعالى المذل المنتقم الجبار ثم وصف هؤلاء العباد بأنهم {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} في القتال أصحاب شوكة وبطش في الحرب لا يقاومون لشدة شكيمتهم وكثرة عددهم وعددهم الدال عليه التنوين {فَجاسُوا} أي يجوسون، وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه أي أنهم إذا جاءوكم لا يكتفون بقتل للقاتل منكم بل انهم يطوقون المنازل ويتحرون الفارين والمخبّئين لاستقصاء القتل والسلب والأسر، فلا يتركون أحدا من شرهم، ولهذا فإنهم يفتشون {خلال} بين وأواسط وأطراف {الدِّيارِ} الكائنة في بيت المقدس فيقتلون من عثروا عليه فيها من علمائهم وأحبارهم ووجهائهم غير مراعين حرمته ومن بجواره حتى إنهم ليخرّبون البيت نفسه ويحرفون التوراة ويسلبون ويأسرون من عثروا عليه {وَكانَ} معروفا في أزلنا اجراء هذا العقاب الذي نوعدهم به في هذه القسوة الصارمة التي لا رحمة فيها ولا شفقة ولا مروءة {وعدا} منا أوحينا به إلى أنبيائهم، وأنذروهم به وخوفوهم غبّه ولم يمتثلوا ولهذا صار {مَفْعُولًا} 5 واقعا البتة لكونه قضاء مبرما من لدنا لا مردّ له، وكان ذلك كله، وانتهكوا حرماتهم أيضا وسبوا سبعين ألفا منهم، فجعلوهم أرقاء لهم {ثُمَّ} بعد هذا الحادث العظيم الفظيع {رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ} الغلبة والدولة بأن جعلنا لكم السلطة {عَلَيْهِمْ} أي على الذين تسلطوا عليكم وفعلوا ما فعلوا بكم إذ قتل بختنصر واستنقذ المسبيّين من دولته ورجعنا لكم الملك والسطوة في بيت المقدس وحواليه ورجعنا حالتكم إلى أحسن مما كانت عليه قبلا، يدل على هذا قوله تعالى: {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ} زيادة على ما كان عندكم وقويناكم وباركنا فيكم حتى صرتم أكثر عددا وغناء مما كنتم عليه قبل القتل والسبي والنهب {وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} 6 جيشا من عدوكم إذ ظهر لنا بعد إيقاع الذل فيكم والصغار عليكم وخلودكم إلى المسكنة وتمادي عدم الرحمة عليكم من عدوكم، أنكم تبتم ورجعتم إلى الطاعة والإيمان وتركتم الإفساد والعصيان وجزمتم على عدم العودة إلى الكفر بنعمنا وذلك كما قيل بعد مائة سنة كما سيأتي بالقصة بعد.
واعلموا يا بني إسرائيل أنكم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ} في هذه المرة فيما بينكم وبين اللّه وبين الناس وامتثلتم أوامر اللّه وأعرضتم عن نواهيه فيما بينكم وبين اللّه وخلقه من الآن فصاعدا عن إيمان صادق واخلاص وايقان وحسن نية، فتكونوا قد {أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} لأن فائدة الإحسان تعود عليكم ونفعه خاص بكم {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} فيما بينكم وبين اللّه وبين خلقه، وانتهكتم حرماته ورجعتم على الإساءة الأولى واستمررتم عليها {فَلَها} فلأنفسكم تكون العاقبة السيئة خاصة، جزاء لإساءتكم المكررة ونقضكم عهد اللّه ورجوعكم إلى ما تبتم عنه، فعليكم من الآن أن تنتبهوا يا بني إسرائيل {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي عقابها المترتب على رجوعكم إلى المنكرات وعودكم إلى الإفساد في البلاد والعباد، بعد هذه النعمة التي مننّا بها عليكم، فاعلموا أن ما ينزل بكم أشد وأفظع وأكبر من العقاب الأول بدلالة قوله جل قوله وعزتي وجلالي {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} بأن يوقعوا فيكم أفعالا عنيفة فظيعة تخزيكم خزيا يظهر أثر كآبته على وجوهكم بأكثر مما فعلوه بكم في المرة الأولى من الخزي والعار والهوان والذل والصغار {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} عنوة فينتهكوا حرمته ويهدموه ويحرقوا ما فيه من الكتب والآثار ويقتلون من يحتمي به ومن في جواره من علماء وأحبار وربانيين وغيرهم {كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إذ فعلوا به وبكم ذلك ولم يرعوا له حرمة ولا لكم رحمة {وَلِيُتَبِّرُوا} يهلكوا ويمزقوا ويفتتوا {ما عَلَوْا} عليه من نفس ومال وبناء {تَتْبِيرًا} 7 لم تتصوره عقولكم والتتبير في اللغة التهديم، قال الشاعر:
وما الناس إلا عاملان فعامل ** يتبّر ما يبني وآخر رافع

أي أنهم يهدمون البناء والبنية من كل ما غلبوا عليه.
قال سعيد بن جبير التتبير كلمة نبطية بمعنى الهلاك، أي يهلكون كل ما استولوا عليه أو وصلت إليه أيديهم دون رأفة، ولكن بني إسرائيل أنستهم نعم اللّه الشكر فعادوا إلى ما نهوا عنه فسلط اللّه عليهم الفرس والروم فقتلوهم شر قتله وسبوهم أشنع سبي ونهبوهم أفظع نهب.